فصل: شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.أدلة الجمهور:

استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأدلة نكتفي منها بما يأتي:
الدليل الأول: احتجاج الصحابة وغيرهم من الأئمة المجتهدين في جميع الأعصار في وقائع بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة، وهذا أمر شائع ذائع بينهم ولم يعرف عنهم أنهم لجأوا إلى قياس أو استدلال بغير لفظ الآيات، فدل ذلك على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومن ذلك احتجاجهم بآية السرقة في قطع يد كل سارق مع نزولها في حادثة خاصة وهي سرقة المجن أو رداء صفوان واحتجاجهم بآيات حد القذف على حد كل قاذف مع أنها نزلت بسبب الذين رموا السيدة الحصان عائشة رضي الله عنها بالإفك؛ وكذلك بآيات اللعان وبآيات الظهار مع نزولها على أسباب خاصة على ما ذكرت لك آنفا وهكذا.
ومما يدل على اعتبار الصحابة ومن بعدهم للعموم ما رواه ابن أبي حاتم بسنده عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ} أخاص هو أم عام قال: عام.
وروى البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن معقل بن مقرن التابعي الجليل قال: جلست إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد- يعني مسجد الكوفة كما في حديث آخر- فسألته عن الفدية- يعني في قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فقال: نزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة.
وروى ابن جرير بسنده عن أبي معشر نجيح قال: سمعت سعيدا المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي فقال سعيد: إن في بعض كتب الله: إن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين يجترون الدنيا بالدين قال الله تعالى: أعليّ يجترئون وبي يغترون وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران، فقال محمد بن كعب القرظي: هذا في كتاب الله، فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله قال قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ * وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها} [البقرة: 204- 205] الآية، فقال سعيد: فقد عرفت فيمن أنزلت فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد.
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح.
الدليل الثاني: قالوا لو لم تكن العبرة بعموم اللفظ للزم استعمال العام في الخاص، وفي هذا صرف له عما وضع له بغير قرينة مانعة من العموم، واللازم باطل فبطل ما أدى إليه، وثبت نقيضه وهو أن العبرة بعموم اللفظ.
فإن قال قائل: إن خصوص السبب مانع من حمل اللفظ على العموم فهو قرينة صارفة.
قلنا: إن خصوص السبب لا يستلزم إخراج غير السبب من متناول اللفظ فلا يصلح إذا أن يكون صارفا عن استعمال العام في معناه الموضوع له وهو أفراده التي منها صورة السبب وغيره.
وبهذا ثبت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

.أدلة غير الجمهور:

استدل غير الجمهور بأدلة نكتفي منها بما يأتي:
الأول: قالوا لو كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لجاز إخراج صورة السبب بالتخصيص، لكن التالي باطل فبطل ما أدى إليه وثبت نقيضه وهو أن العبرة بخصوص السبب.
أما وجه الملازمة فإن اللفظ العام يجوز إخراج أي صورة منه بالتخصيص فتكون صورة السبب كغيرها في جواز إخراجها من اللفظ العام، وأما وجه بطلان التالي فلأن الإجماع منعقد على عدم جواز إخراج صورة السبب من اللفظ العام، وأجيب عن هذا الدليل بأن عدم جواز إخراج صورة السبب إنما جاء من دليل آخر وهو الإجماع لا من جهة كونه غير عام، ودليلهم إنما يتم لهم الاستدلال به لو أن عدم الجواز جاء من جهة كون اللفظ غير عام وليس الأمر كذلك وعلى هذا فالملازمة غير مسلمة، وباطلة وثبت أن هذا الدليل لا ينهض للاحتجاج به فلا تثبت به الدعوى.
الثاني: قالوا لو كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لما كان لذكر السبب فائدة لكن التالي- وهو عدم الفائدة- باطل فبطل ما أدى إليه- وهو ما فرضناه من أن العبرة بعموم اللفظ- وثبت نقيضه وهو أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.
وأجيب عن هذا بأننا لا نسلم لكم انتفاء الفائدة مطلقا، إذ لا يلزم من نفي الفائدة المعينة وهي تخصيص الحكم بالسبب نفي الفائدة المطلقة، بل هناك فوائد كثيرة غير هذه، وقد تعرضنا للكثير منها في صدر البحث وبهذا لا يصلح هذا الدليل للاحتجاج فلا تثبت به الدعوى.
الثالث: قالوا لو كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لكان اللفظ الذي هو بمنزلة الجواب غير مطابق للسبب الذي هو بمنزلة السؤال، لكن عدم المطابقة باطلة؛ لأنه ينافي كون القرآن في أعلى درجات البلاغة، فبطل ما أدى إليه وثبت نقيضه وهو أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ وقد أجيب عن هذا بمنع الملازمة، وهي عدم المطابقة؛ إذ المطابقة حاصلة، وزيادة الجواب عن السؤال لا تخرجه عن المطابقة؛ لأنه اشتمل على المقصود وزاد عليه، ومثل هذا الأسلوب لا ضير فيه ولا يخل بالبلاغة بحال من الأحوال، وإنما يخل بها لو كان الجواب خاصّا والسؤال عامّا لعدم المطابقة حينئذ، وعلى هذا فلا يصح هذا الدليل فلا تثبت به دعواكم.
وإذ قد بطلت أدلة غير الجمهور وبقيت أدلة الجمهور قوية سالمة من البطلان كان رأيهم هو المعول عليه.
مثال للفظ خاص نزل على سبب خاص:
ما ذكرنا من خلاف بين الجمهور وغيرهم إنما هو في لفظ له عموم ونزل على سبب خاص أما إذا كانت آية نزلت بسبب خاص ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعا وقد مثل الإمام السيوطي في الإتقان لذلك بقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 17- 18] فإنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالإجماع قال: وقد استدل بها الإمام فخر الدين الرازي مع قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} على أنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووهم من ظن أن الآية في كل من عمل عمله إجراء له على القاعدة وهذا غلط، فإن هذه الآية ليست فيها صيغة عموم إذ الألف واللام- يعني قوله: {الأتقى}- إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع، زاد قوم: أو مفرد بشرط أن لا يكون هناك عهد، واللام في {الأتقى} ليست موصولة، لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعا، والأتقى ليس جمعا بل هو مفرد، والعهد موجود خصوصا مع ما يفيده صيغة أفعل من التمييز وقطع المشاركة فبطل القول بالعموم، وتعين القطع بالخصوص والقصر على من نزلت فيه رضي الله عنه.
وبعض المفسرين يرى احتمال الآية للعموم مع قولهم: إنها نزلت في الصديق رضي الله عنه فتكون له ولغيره ممن هو على شاكلته وفسروا الأتقى بالتقي كما فسروا {الأشقى} وهو أمية بن خلف بالشقي فتشمله وتشمل غيره ممن يعمل بمثل عمله، ومن هو على صفته واستدلوا لقولهم هذا بقول طرفة ابن العبد:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي واحد ووحيد، وتوضع أفعل موضع فعيل نحو قولهم: الله أكبر بمعنى كبير {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي هين وممن يحمل الآية على العموم العلامة ابن كثير في تفسيره قال: وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حتى أن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ عموم وهو قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى * وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى} ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة؛ فإنه كان صديقا تقيّا كريما جوادا بذالا لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل.
وأيّا ما كان المراد من لفظ الأتقى فالآيات نص في الدلالة على فضل الصديق الأكبر رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن السبب يدخل في الآية دخولا أوليّا.

.شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام:

قد تنزل بعض الآيات على الأسباب الخاصة وتوضع مع ما يناسبها من الآي العامة رعاية لنظم القرآن وحسن السياق وتناسب الآيات فيكون ذلك الخاص قريبا من صورة السبب في كونه قطعي الدخول في العام، وقد اختار الإمام ابن السبكي في جمع الجوامع أنه رتبة متوسطة دون السبب وفوق التجرد، ومثاله قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء: 51- 52].
فقد نزلت هاتان الآيتان في كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود لما قدموا مكة بعد بدر ليحرضوا قريشا على قتال النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بالثأر فنزل كعب بن الأشرف على أبي سفيان بن حرب فأحسن مثواه ونزل بقية اليهود دور قريش فقال سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم، أينا أهدى طريقا نحن أم محمد فقال كعب: اعرضوا عليّ دينكم. فذكر له أبو سفيان بعض فضائلهم فقال كعب أنتم- والله- أهدى سبيلا مما عليه محمد وأصحابه قال هذا مع علمه هو ومن معه من اليهود بما في كتابهم التوراة من نعت النبي الأمي العربي المبعوث في آخر الزمان، وأخذ المواثيق عليهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ولا يكتموا أوصافه، فكان هذا أمانة لازمة لهم وعليهم أن يؤدوها، وكان قول كعب بن الأشرف ومن وافقه خيانة لهذه الأمانة التي ائتمنوا عليها وأمروا بأدائها إذا حان وقتها، وقد وبخهم الله سبحانه وتعالى على خيانتهم هذه ولعنهم وتوعدهم عليها، وقد اقتضى هذا التوعد واللعن الأمر بمقابل خيانتهم، وهو أداء الأمانة الخاصة التي هي بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يجدون نعته عندهم مكتوبا في التوراة، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم بل أشد، ثم جاء بعده الأمر بأداء الأمانات عامة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58].
فكانت المناسبة رائعة حقّا، والاتصال وثيقا، والانتقال في غاية الحسن والجمال، إذ أن آية الأمانة عامة في كل أمانة، وما تقدم كان في أمانة خاصة، والعام تال للخاص في الرسم متراخ عنه في النزول، وهذه المناسبة تقتضي دخول ما دل عليه الخاص في العام دخولا أوليّا، فهو كسبب في كونه قطعي الدخول في اللفظ النازل بسببه ولا يجوز خروجه بالإجماع.
وقد اعتبر الإمام ابن السبكي هذا النوع مرتبة متوسطة دون السبب وفوق التجرد؛ أما كونه دون السبب فلأن الأولى ليست سببا في الثانية اصطلاحا وأما كونه فوق التجرد فلهذه المناسبة القوية بين الخاص والعام ودخول الأول في الثاني.
ولا يرد على ما ذكرناه تأخر الآية الثانية عن الأولى بنحو ست سنين؛ لأن الزمان إنما يشترط في سبب النزول لا في المناسبة؛ لأن المقصود منها وضع الآية في الموضع الذي يناسبها، والآيات كانت تنزل على أسبابها ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في المواضع التي علم من الله أنها مواضعها، وهذا الكلام الذي قاله ابن السبكي ونقله عنه السيوطي في الإتقان من الحسن بمكان، وقد نبه إلى هذه المناسبة البديعة بين الآيات الإمام القرطبي في تفسيره حيث قال: وجه النظم بما تقدم أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم وقولهم إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات.